عظة سيادة المطران بشارة الراعي

عنايا – 13 كانون الأوّل 2002

 

باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.

 

الشهادة  للمسيح.

"كان يوحنا سراجاً مضطّرماً منيراً".

يشهد الرّب يسوع عن يوحنا المعمدان أنّه سراج مضطّرم ومنير أمام وجهه، وجه يسوع الذي هو نور العالم. والدعوة موجّهة لكلّ واحدٍ منّا لأن نستنير بنور المسيح وأن نكون سراجه بالكلمة والثقافة، بالأفعال والمواقف، وببناء حياتنا الاجتماعيّة والوطنيّة، والكنيسة هي نور المسيح، والوطن الذي ننتمي إليه لبنان مدعو لأن يلعب دورَ نورٍ في هذه المنطقة. ولنا خير مثال في مَن هم سراج يسوع المسيح المضيء والمضطّرم، الطوباوي نعمة الله الحرديني الذي نعيّد له اليوم، والقديّس شربل الذي نلتئم حول جثمانه، والقديسة رفقا، نستشفعهم الليلة اذاً مع كلّ شُفعائنا والأبرار الذين تلألأوا كالشمس في ملكوت الله، نصلّي لكي يصبح كلّ واحد منّا سراجاً مضطّرماً منيراً حيث هو، ومن أجل كنيستنا لتكون نوراً تنيرُ حياتنا الخاصة والعامة، ومن أجل لبنان ليحافظ على رسالة النور ونستعيد هذه الرسالة في هذه المنطقة المشرقيّة. ولنحمل معنا من هذا اللقاء مع الرّب يسوع شعاراً نجدّده كلّ يوم، أن نكون سراجاً مضطّرماً منيراً.

يسعدنا اليوم أن نلتقي مثل كلّ ثاني جمعة من الشهر، كي نحتفل بالقدّاس على نيّة كنيسة لبنان ونصلّي على نيّة قداسة البابا. وأنتم تعلمون أن هذا القدّاس بدأناه ثاني جمعة من الشهر لأنّه يذكّرنا بتاريخ زيارة قداسة البابا إلى لبنان. نقدّم الذبيحة أيضاً من أجل تحقيقنا نوايا قداسة البابا العامة في الكنيسة، وخاصةً تحقيق النوايا التي دفعته إلى دعوة الكنيسة لسينودس من أجل لبنان.

كما وأن القداّس نقدّمه على نيّة كلّ الحاضرين، وكلّ عائلاتكم، وكلّ شعبنا اللبناني، حتى نستمر بالشهادة الموكّلة لنا وعنوانها اليوم، الشهادة للمسيح بأن نكون سراجاً مضطّرماً ومنيراً. وكانت العادة أننّا في هذا اللقاء الشهري، نواصل تأملنا بتعليم الإرشاد الرسولي، ونحن بلغنا اليوم إلى الفصل الذي يتكلّم عن الحياة الوطنيّة، وبوجه التحديد الفقرات 93 إلى 96 التي فيها الكنيسة والمسيحيين مدعوّين كي يعيشوا شهادة النور مع أخواننا المواطنين، وبنوعٍ خاص، المسلمين في لبنان وفي العالم العربي من أجل بناء مجتمع قائم على الأسس الصحيحة والسليمة التي من خلالها يستمر لبنان بلعب الدور، دور السّراج، دور النور الثقافي والإنساني والاجتماعي في هذه البيئة من العالم. يساعدنا في التأمّل اليوم ليس فقط سيرة مار شربل الذي يقود دائماً "تأملنا" ولكن الطوباوي نعمة الله.

تحتفل الكنيسة غداً 14 الشهر بتذكار وفاة الطوباوي نعمة الله، ونحن نقول ميلاده في السماء 14 كانون الأوّل 1858. وكأنّ الطوباوي نعمة الله ومار شربل على موعد في انتقالهم إلى السماء، ميلادهم في شهر كانون الأوّل. تعلمون أنّ مار شربل  ولد في السماء، لا نقول مات، ليلة عيد الميلاد، بعد 10 أيّام لكن بعد 40 سنة و10 أيّام، 24 كانون الأوّل 1898 كانت وفاة مار شربل. الطوباوي نعمة الله توفي في عمر الخمسين سنة، كان مدبّراً في الرهبنة، وأستاذ لاهوت ومعلم لمار شربل. ولم يفرح بسيامة مار شربل على الأرض، لأنّ مار شربل ارتسم كاهناً بعد وفات الطوباوي نعمة الله بسنة، سنة 1859. كان الطوباوي نعمة الله سراجاً مضطّرماً ومنيراً في حياته الرهبانية، وهو صاحب القول الشهير، عندما قالوا له رفاقه واخوته في الدير، لماذا لا تستحبس؟ لأنّه كان سراج مطّرم ومنير في التقوى والعبادة والصمت والإماته، ومثال بحياته ومسلكه، وكان يشع بالقداسة وبقربه من الله الذي جعله مثلما نقرأ في حياته أن يتقدم من سرّ التوبة كلّ يوم، لأنّه كان يعيش بالقرب من الله النور المشع وكان يكتشف مدى شوائب هذا القدّيس. أجابهم الجواب الشهير، هم قالوا له بكلّ بساطة من الصعب أن تتقدّس في الدير لأنّ الحياة الديريّة صعبة، ونحن نعلم، الرهبان ناس مثل كلّ الناس لديهم شوائبهم وهفواتهم، ولديهم نواقصهم، ليسوا ملائكة انّما هم مدعوّين للقداسة. يقول الكلمة الشهيرة التي تشدّدنا كي لا نقع عندما يكون هناك مشاكل في حياتنا، عندما يكون هناك صعوبات وهواجس وأفق مسدودة لا يجب أن ننحرف، مثلما الناس عادةً يقولون: جميع الناس يعيشون هكذا فلنعش مثلهم، نحن نريد المشي عكس التيّار، قال الكلمة الشهيرة كانت هكذا، وستبقى هكذا، وما زالت هكذا، وستظلّ هكذا: "الشاطر الذي يخلّص نفسه".

في ضوء إنجيل اليوم شاطر الإنسان أن لا يطفئ سراجه، لا ينحرف عن طريقه ولا عن دعوته ولا عن التزامه المسيحي والزوجي، الرهباني والكهنوتي والتزامه في مسؤوليته الاجتماعية، ويبقي هذا السراج المضطّرم والمنير. ونحن نعلم أننا بحاجة إلي السراج في الظلمة. ولأنّ هناك مشاكل وصعوبات وهواجس ووجع، ومصالح تأتي لتغيّم علينا! فنحن بحاجة ليستمر هذا السراج مضيء والاّ فلسنا بحاجة إلى السراج إن كانت الدنيا في ألف خير. هذه هي الرسالة التي يتركها لنا الطوباوي نعمة الله ولم ينطفئ سراجه أبداً، واليوم يشعّ بأنوار يسوع المسيح في أعالي السماء.

في ضوء هذا الموضوع نقارب حديثنا بالإرشاد الرسولي عن الشأن اللبناني الوطني التي فيها نحن مدعوّين كمسيحيين، نقرأ بكلمات الإرشاد بلسان البابا، الكنسية في لبنان بأبنائها ومؤسساتها مدعوّة للحوار والتعاون مع المسلمين ليس فقط في لبنان ولكن بكافة العالم العربي. من الممكن أنّه لولا كلمات الإنجيل اليوم، الرّد الفعلي هو: "لا يمكنك أن تحاور شخص تفكيره مختلف عن تفكيرك"، وهم ما هو موقفهم؟ من الممكن أن يكونوا أحسن منّي. اذا أنا اعتبرت أنّ هناك مشكلة بيني وبينهم فعليّ أن أكون سراجاً صغيراً لا ينطفئ أمامهم. الكنيسة مدعوّة وهذه هي رسالتها، والمسيحيين مدعويّن وهذه هي رسالتهم، ان يعيشوا بسراجهم بحوارهم وبثقافتهم الانجيليّة بكلّ معاني هذه الثقافة الانجيليّة التي هي ثقافة حقيقة الله، آب وابن وروح قدس، حقيقة الإنسان المخلوق على صورة الله، كلّ إنسان، المفتدى بدم المسيح، هيكل الروح القدس، أخ لكلّ إنسان، وحقيقة التاريخ الذي نصنعه لنبني سوياً ملكوت الله في هذا العالم. الكنيسة والمسيحيين مدعوين للعب هذا الدور، وإذا لم نلعب هذا الدور فقدنا مبرّر وجودنا. وهذا ما يقتضي منّا أن نعيش بعمقنا في هذا العالم العربي، مرسلين في العالم العربي ولسنا مرسلين للبحر ولا لأوروبا. مرسلين للعالم العربي هذه هي بيئتنا، وهنا سوف نؤدّي الشهادة وهنا سوف نكون سراج، وليس هذا فقط نحن أيضاً ملزمين في هذا العالم المشرقي الذي نسمّيه العالم العربي ملزمين فيه بحكم المصير الواحد الذي يربطنا جغرافياً وسياسياً، وملزمين من ناحية التراث الذي نحمله، والذي كنيستنا ومسيحيي لبنان والشرق العربي لعبوا الدور الأساسي في النهضة الثقافية العربيّة. لا يمكننا بسهولة أن نتخلّى عن هذا العمق الثقافي وعن هذا الدور النهضوي الذي لعبه المسيحيين في هذا الشرق. ويواصل البابا حديثه في هذا الكلام ويقول :"إذا التزم المسيحيين والمسلمين في لبنان أن يبنوا مجتمعاً سليماً، يستطيعوا أن يكونوا مثالاً لمسيحيي ومسلمي  بلدان الشرق الأوسط كي يبنوا بدورهم مجتمعاً من هذا النوع، ويبنوا سوياً مستقبل عيش مشترك وتعاون يهدف إلى ترقّي شعوبهم الإنساني والخلقي. ونتذكّر كلمة بولس الرسول أن بناء ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، ولكن ملكوت الله هو بناء مجتمع إنساني قائم على القداسة والأخوّة والغفران والسلام والعدالة والتضامن وهذه الرسالة يحملها المسيحيين التي تجعلهم سراج مطّرم ومنير. ويتواصل الحديث من خلال هذا الالتزام المسيحي أن نكون جماعة السراج، أن نبني كلّ واحد من موقعه، وكلّ واحد من مسؤوليته، نبني نظام اجتماعي ووطني عادل ومنصف، على أساسه ينبني البيت المشترك. ولا تعتقدوا أن هذا الحديث مقتصر فقط على السياسيين، في الضيعة التي نحن فيها، في العيلة التي أنا فيها، في هذا المجتمع الصغير الذي أنا فيه، يجب أن أعلم كيف سوف أبني مجتمع، يجب أن أعلم بناء نظام حياتي، بناء نظام عائلي، نظام إنساني مع الناس الذين أعيش معهم قائم على الإنصاف، على الرحمة، على الإنسانية وعلى العدالة التي تعطي كلّ إنسان حقّه، وأعمل واجبي تجاهه وهذا هو الأساس الذي عليه نبني العائلة الصغيرة والعائلة الكبيرة في الضيعة، ونبني العائلة الكبيرة في الوطن. لا نعتقد أنّه عندما نتكلّم عن نظام اجتماعي ووطني نتكلّم فقط عن البارلمان والحكومة لكن نتكلّم عن كلّ مواطن. الوطن والكنيسة تبدأ في منزلي، منزلي أنا، عائلتي، كيف أعيش مع زوجتي، كيف أعيش مع زوجي، كيف أعيش مع أولادي، كيف أعيش مع جيراني، كيف أتعاطى مع الناس، والمشكلة الكبيرة في الوطن لا تبدأ من فوق بل من القاعدة. مجتمعنا بحاجة أن يُبني على أسس سليمة انطلاقاً من الدائرة الصغيرة التي تدعى الأسرة البيتيّة، والأسرة في الضيعة، والأسرة معها معها تكبر حتى تطال أرجاء الوطن. يقتضي هذا حتى نبني نظام اجتماعي يثقّل العيش معاً يقتضي أن أتخلّى أو أخضع مصالحي الشخصيّة ومصالحي وحساباتي أخضعها للخير العام. سأعود وأعود إلى هذا الحديث وأريد انّ نتكلّم فيه عن عيالنا الصغيرة، الأب والأم والأولاد لا يستطيعوا أن يبنوا عائلة إن لم يتخلّى كلّ واحد منهم عن مصالحه الشخصيّة، وعن أنانيّته، وعن راحته، وعن حساباته، ومنها ننطلق إلى مجتمع أكبر. انّ إخضاع المصالح الشخصيّة للخير العام يعني الالتزام في واجباتي بتجرّد، وآخذ عبرة في حياتي اليوميّة ومن الممكن أن تجعلني مرتاحاً وملتزماً. إذا كنت فعلاً أريد أن أكون سراج مضطّرم ومنير، أسأل نفسي أينما كنت في المنزل وفي المجتمع ما هي واجباتي تجاه الناس إذ أضع هذه القاعدة في حياتي كلّ يوم، ما هي واجباتي تجاه الآخر الذي هو بالقرب منّي، واجباتي تجاه الآخر الذي سوف ألتقيه دون أن أفكر ماذا سوف أجني. أعتقد أنّه يمكننا بناء مجتمع أفضل إذا كلّ واحد منّا التزم بواجبه الشخصي. فعندما ألتزم أنا بواجبي تجاهك، فأنا أعطيك حقوقك، وعندما تلتزم أنت بواجباتك تجاهي فأنت تأخذ حقوقك. لا يوجد حقوق في الهواء، هناك حقوق عندما الآخر يقوم بواجباته تجاهك، ويقتضي هذا من جهة ثانية أن نحترم حقوق الغير. لست أنا فقط الذي لديه حقوق لكن هناك آخر لديه حقوق، وغيري لديه الحق أن يعيش مرتاحاً وأن يعيش بكرامة، وغيري أيضاً لديه حقوق أن يكون محترماً برأيه، محترماً بضعفه، محترم بنظرته للحياة. لست الوحيد الذي سوف يكرّمه الناس، احترام الحقوق والواجبات التي تعود إلى كلّ شخص ولكلّ جماعة ونحيي سوياً روح المشاركة والمسؤولية والتضحية والدفاع عن كرامة بعضنا البعض. من هنا إذا انطلقنا، يدعونا الإرشاد أن نعطي عناية خاصة للشبيبة، الأجيال الجديدة التي حقّها علينا نحن الأكبر منهم أن نساعدهم ليبنوا ذاتهم ولا نكون مثلاً عاطلاً أمام الأجيال الجديدة. وعندما لا أعطي أنا الأكبر مثالاً، أكون مشككا، فإذا ضاع البعض من شبيبتنا، لا تضعوا الحق عليهم، الحق علينا نحن الكبار، فلو كنّا أمامهم مثالاً صالحا لما صُدموا ولا انحرفوا ولا ضاعوا. والشباب هم أكثر الناس اصحاب ردّة فعل من سوء تصرف الكبار تجاههم، ويذهبون ويتّجه هذا إلى المخدّرات، هذا إلى الفلتان، هذا إلى الإهمال، هذا إلى عدم المسؤولية وهذا إلى الاستقالة فلننظر إلى الشبيبة الضائعة في مجتمعنا ونعتبر أننا مسؤولين لإعادة الرجاء والمثال لحياتهم، حقّهم علينا ان نعطيهم المثال، نعطيهم ثقافتهم، نعطيهم إمكانياتهم ونعطيهم مكانهم في حياتنا العائليّة والاجتماعيّة، الكنسيّة والوطنيّة. وينتهي هذا الموضوع بالقول: "إذا نحن فعلاً عشنا هذه الوقائع في حياتنا العائليّة وفي حيّنا وفي مجتمعنا الصغير، عندها نعم نبني مجتمع أكثر وطنية قائم على المسؤولية المشتركة بدون تهميش لأحد، وإشراك الجميع بالحياة العامة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والنقابيّة ونشعر أنّ كلّ واحدٍ بحاجة للآخر، ولا يعتبر أحد نفسه سانداً عامود السماء، ولا يعتبر أحد نفسه مالك كلّ الحقيقة، لكن عندها نعيش حقيقة جسد المسيح السرّي. أنّ كلّ واحد منّا بحاجة للآخر ولا أحد منّا يستطيع الوقوف من دون الآخر.

هكذا اخوتي وأخواتي نعود ونجعل من حياتنا الخاصة سراج مضطّرم ومنير، يهدي إلى نور العالم يسوع المسيح. وهكذا كجماعة كنسيّة وكوطن نستعيد دورنا، أن نكون في هذا المجتمع سراج مضطّرم ومنير. نلتمس هذه النعمة اليوم بنوع خاص بشفاعة الطوباوي نعمة الله، ومن أمّنا مريم العذراء، وبشفاعة مار شربل، والقدّيسة رفقا، وكلّ شفعائنا، وشفيع هذا الدير مار مارون أب كنيستنا، آمين.


مار شربل للحياة
Saint Charbel for Life
Back to Home page
E-mail us: info@lilhayat.com